الجمعة، 27 مارس 2020

رسالة قديمة









طبيعة الحياة تحتِّم علينا أن نجاريها ونتغير وقفاً لمُعطَيات العصر، قد يكون هذا التغيير إرادياً أو إجبارياً، ولكن يظل الحنين وسادةً نتكئ عليها، و حُلم نتمنى عودته يوماً ما... هي طبيعة الإنسان الحنين إلى الماضي بالرغم مِن أن الماضي ليس جميلاً دوماً.
ويقيني بأن كل إنسان هو عبارة عن كِتاب، يحتوي علي غلاف ومحتوى وصفحات وتكمن بين صفحاته الأسرار، الحِكَم، الجمال، القِيّم و المتعه ، لن تتعرف على  كل ذلك إلا إذا إقتنيته وتصفحته بهدوء ... و أحياناً نحتاج أن نقرأ بعض الكتب مرتين أو ثلاثة .
كلٌ مِنا لديه أغنيتِه المُحببه التي يرددها وحده، يحملها تنهيدةً بين ضلوعه، يدندن بها دون أن يشعر،  وربما ضُبِطنا مرات كثيرة ونحن نسترها خلف قِناع الدندنة ولكنها تحكي قصة أبطالها في عالمٍ آخر، الأغنية السودانية شكلت وجدان الشعب السوداني باكراً وكُثر هم الذين ساهموا في هذا التشكيل .
وحتى وقت قريب كانت الرسائل الورقية هي وسيلة التواصل المحببة و هي أمل العاشقين و جِسر يربط قلوب المحبين، مِعبر بين المغترب ووطنه، البريد كان يحمِل من الحروف "أحاسيس" منها المُفرح والمُبكي، فكان مِقياس الأهل حينها للتعليم كتابة الجواب؛ إذا سمعوا بأن إبن فلان يدرس كان السؤال :
أها بتقرأ الجواب؟؟
وكانت القرية كلها تموج فرحاً حين يسمعون أن (فلان) جابوا ليهو جواب، فكانت الأسرة تجتمع كلها وينادون ذلك المتعلم "ليقرأه" لهم، فتكون البداية التي تأتي بعد التحية تلك البداية التي تحفل بها كل الرسائل " وإذا سألتم عنا فنحن بخير لا ينقصنا سوى رؤياكم الحبيبة" .....ثم السرد أما عن كذا فهو كذا!!!
ماهي إلا لحظات ويبحثون عن المتعلم الذي "يكتب الجواب"  وتجتمع الأسره مرةً آخرى ثم البداية السرمدية المعتادة " كيف حالكم وأحوالكم في هذه المدة الطويلة التي لم نراكم فيها ......" كانت أحرف تلك الرسائل تفيض حنيناً ويتدفق الشوق من بين أسطرها ماضياً إلى الغائب الذي سيحتفي بها ويضعها في خِزانة مخصصة للرسائل، وأعتقد أن كل الذين عاصروا تلك الفترات مازالوا يحتفظون برسائلهم في صناديقٍ من خشب....و معها أشياء أخرى.
أما عن خطابات العشق فكانت حاضرة، هي السلوى للعشاق؛ حيث كان البعد مؤلماً والغياب أقسى وأكثر إيلاماً ....فكانت تحفل الأوراق بالقلوب المرسومة بصورةٍ عشوائية والأحرف تحكي عن صبابةٍ فاضت فتشكلت علي هيئةِ أحرفٍ فرسمت قلب، ثم يستقبلها الطرف الأخر بلهفة، يحتضنها و يجعلها تشاركه السُهاد ويبثها لوعته وحنينه.
كان تحفل (خطابات) الزمن الماضي بالعبارات المعبرة والكلمات الجميلة، والأكثر شوقاً هو الذي يتفنن في إيجاد مفردات ذات معنىً أكثر تعبيراً عن المعتاد والبداية التقليدية والتي تكون عادةً منقولةً من رسائل الآخرين، فحسناوات ذلك الزمان كُنْ أكثر ثقافة. وكتب الشعراء في ذلك الكثير من الأغنيات منها ما غناهُ مجذوب أونسة 
(آخر خبر كتبوا الجواب) كتعبيرٍ لما يدور في قلبِ المحبوب ليقطع هواجس الشوق بيقين الخبر   فمضى يسرد هواجسه المؤرقة .... ثم يعاتِب ( مجذوب)  الحبيب ... و هو يحكي متسائلاً ومستغرباً :
 " إيه الحصل مابين يومين
 قسى القليب الكان حنين
 وخلاهو يكتب لي كلمتين
وزرفت وراهم دمعتين"
فما تحمِله الجوابات كان كفيلاً بتكديرِ حياة العُشّاق وذرف دموعهم ... فالبعد و الكلمتين التي حملها الخطاب الى مجذوب  كانت كفيلة بإبكاءه،  بعدها جاء ليعيد كبرياء أحرفه مع عتابٍ مخفي بين الأحرف ليرد بكلماتٍ تحمل تذكيرٍ قاسٍ به إستعطاف جميل :
  " انا ما جبرتك يوم تحب ....
 بس انت بي طيبة قلب ....
مشيتني في اطول درب....
 اطول درب مشيتني فيه ليه"
 في هذا المقطع يردد مجذوب الكوبليه مرتين ثم الثالثه وبصوته الندي الذي يتدفق حنينا ً....ودمعات الآخرين تتساقط متاقطرة .
يأتي مرةً أخرى للعذال والوشاة الذين دائماً ما يكون همهم الشاغل التفريق بين الأحبة فيعاتبه برقة هنا باكياً ومُحلِقاً في سمواتِ النغم :
 " اطول درب مشيتني فيه ليه.....
 أمروك خلاص تترك هواي....
جبروك خلاص تترك هواي....
 وتوهب قليبك لي سواي "
يخرج هنا ملوحاً بيدِ الوداع يائساً بائساً بعد أن كان الجواب سببا في فراقهم .
يختتم مجذوب بكائيته وهو يضع أخر خطواته للخروج من باب الدخول معترفاً ربما جاء متأخراً لكنه هيهات فقد فات الأوان الآن و يبكي :
" حبيتك انت وقلبك ما معاي
هي النار بتحرق في حشاي
 مبروك عليك دا هناك هناي "
  لتكون الخاتمه كعادة العشاق التضحية متمنياً لها السعاده ليثبت أن همه الشاغل هو سعادتها  ليكون الجواب والكلمتين التي كتبتهم سبباً في الفراق الأبدي.
في جانبٍ آخر إجتمع مصطفي سند وصلاح مصطفى في "غالي الحروف " التي جاءت بدايتها مباشرة جداً خالية من المراوغات " أكتب لي غالي الحروف " .....وهو  نهجٌ سار عليه محمود عبدالعزيز حينما حكى " أكتبي ليّ ..طمنيني عليك " .... و قد سبقهم الكاشف .... حينما ردد " حبيبي أكتب لي وأنا أكتب ليك" ... لم يكن هناك بُدْ من الأشواق والكتابة للحبيب.
كتب التجاني حاج موسي " جواب للبلد " حكى فيه عن لوعته وشوقه للبلد والأم ... كما إشترك صلاح حاج سعيد ومصطفي سيد أحمد بالتعبير في رسالة حب للجميع عنوانها الإعتراف الواضح " كتبت ليك لا بيني بينك ريده لا قصة غرام "
كتب سيف الدين الدسوقي للجابري "رسائل" فقرأناها جميعا ... غير أن خطابات الغرام في فترة الثمانينات لم تخلُ مِن كلمات الصادق الياس التي خطها للجابري  " من طرف الحبيب" حيث جاء فيها عتاباً واضحاً " يحكي عتابو فيها... و قال ناسنو قايل"  ظلت تلك الأغنية سلوىً للعاشقين مدة من الزمان ... فحملتها الطيور المهاجرة أنسيةً لليالي ولا زالت ... فحينما أنتج الجابري هذا الكاسيت إقتناهُ الجميع يستمعون إليها ثم يعيدونها مرات ومرات ....
الرسائل الورقيه ...واقعٌ  عشناهُ فترةً مِن الزمان ... و أغنياتٍ إصطحبناها زماناً و ألحان ذكريات، أحلام، و أيام لن تعود.
 و...أخر خبر كتبوا الجواب.



هناك تعليق واحد:

  1. نزار مشا الله كلام ف قمة الروعة.. كم تغنو اكتب لي ي غالي الحروف.. اكتبي ليا وطمنيني عليك ي بنية.. من طرف الحبيب جات أغرب رسايل.. وكتبت ليك لا بيني لابينك...فعلا أهمية الرسايل والخطابات بين الأشخاص جعلت منها أغنيات وأحاديث.. تسلم ع السرد الجميل كن كما عهدناك

    ردحذف