الخميس، 3 ديسمبر 2015

ود مـــــدني ســــيرتك أنت علي حبيبة


ودمدني ...سيرتك أنت علي حبيبة
بقلم : نزار عبدالله بشير
حتى العام قبل الماضي ، كانت ودمدني تمثل لي محطة ومعبر ، كنت أعبرها من كوستي إلى المناقل ، وكذلك في رحلة العودة ، كمدينة رأيتها كثيرا ...لكن لم يكن يوما لي براح أن أطوف بها وأستنشق هواءها عند الصبح إلا والجامعة تعلن عن قيام (الكورس التكميلي) أو إن شئتم فسموها (الرحلة العلمية )...حيث بعدها خواتيم مشوار البكالاريوس والاستعداد لموسم إستقبال (الفزع ) والهلع ...والدخول في عوالم إمتحانات (الإكستيرنال) ...لنمني النفس بعبارة تكتب على طرف القائمة التي تحمل "إسمك" ...."نوصي بمنحه درجة البكاﻻريوس.
- رحلنا صباحا في جو من المرح ، وذلك بعد أن حزمنا حقائب الترحال إلى أرض الجزيرة الخضراء ، وروائح العطر تفوح من العربة التي نحن على متنها ، وأغنيات الجميل طرزان تقصر المشوار ، ونردد نحن بنشاز ومجاراة من ﻻ يعرف مواكبة اللحن ، ولكنها فقط مساحة للتعبير عن الإنتشاء ... نتمازح ، ونتبادل القفشات والضحكات طوال رحلة عمرها أطول من ثلاث ساعات ، كنت مجاورا للنافذه الزجاجية ، آحايين كثيرة أهرب بنظري الى خارج العربة ، ﻷشاور للشجيرات الصغيرة التي تلهث خلفا في محاوﻻت يائسة ل اللحاق بنا ، ثم أتعمد حجب الصوت عني ...لتكون الصورة أكثر وضوحا ؛ فلا تقابلني سوى إبتسامات وضحكات تتحرك بالبطيء ؛ كأنما هي أدوار سينمائية يعيدها المخرج بطيئا ، أتابعهم وفي بالي ودمدني ، كيف ستستقبلنا ، كيف هي أجواءها ، أسواقها ......وﻻفتتها الشهيرة " إبتسم أنت في ود مدني" .
- سريعا إنقضت الثواني وإنتهت الرحلة - فأنا عاشق للسفر والترحال - وصلناها (الجميلة) .. وكان محطنا (بانت) ...أجمل الأماكن التي يمكن أن تسكنها هناك (بيت الشباب)، عشنا إنسانيتنا فيها ...كنا نقضي يومنا بين (مركز القلب) ، (مستشفى الكلى)، ( مستشفى الذرة) ، ( مستشفى الاطفال) ، اسبوع لكل مؤسسة صحية ، عادة ينتهي الدوام بعد الساعة 2 ظهرا ، ونتوجه جميعا إلى سوق ودمدني ومحطات وذكريات في السوق ...مضت كأنها لم تكن.
- كانت فترة أمضيتها في قراءة أشعار مصطفى سند وإدريس محمد جماع ؛ حيث إقتنين هذين الديوانين هناك ، ومن نافذة القطار للبروف عبدالله وكونت صداقات مع أصحاب المكتبات ، بحيث أصبحوا يحتجزون لي الكتب التي تصلهم من المراكز ويتصلون بي ، كنت موازنا بين قراءة المراجع الطبية الكئيبة بإنجليزيتيها الغريبة ، وبين كتب الادب والاشعار ...وبين الأنس والترفيه برفقة الأصدقاء ، كنت ومعي صديقي نجوب ودمدني بحثا عن البرامج الثقافية ...وكنا ﻻ نجد صعوبة في الحصول على مرادنا .... ربما قد تلاحظون بأن كلماتي هذه جاءت جافه خاليه من أي إسلوب أدبي
..أشبه بكتابة اليوميات ..هي الكتابة عن ودمدني صعبة للغاية .
- وعند العصاري وقبيل أن تصبغ الشمس وجنتيها باللون الأحمر حيث اﻹستعداد للغياب والغروب ، نشرب نحن خمر المتعة ونسير مترنحين صوب شارع النيل ؛سحر المكان وروعة التلاقي ، الحدائق المفتوحة والنسائم الشاردة من بين ثنايا موجات النيل ، في أيامي الأولي كنت أقضي وقتا مقسما نفسي بين العروض المفتوحة للعاب الجمباز التي يؤديها أطفال صغار صادفتها أكثر من مرة ، وبين التأمل في (عشاق النيل) ومناجاتهم ، كنا نتجمع نحن زملاء الدراسة على مقاعد مثبة بعمق على أرضية الحديقة ثم نبدأ بالتغني عادة ب (أحلى منك) ، ذلك الحنين الذي جمعت بين (عبدالرحمن مكاوي) و (حمد الريح ) كنا نغني كالمحترفين ؛ فنترك للذين ﻻ يجيدون الغناء مساحة أن يرددو معنا ككورس ، وذوي الأصوات العادية يؤدون المقاطع التي تتوسط اللحن أما أماكن التطريب فنتركها ، لطيور الكناري واللعب في مناطق اللحن العالية كان ﻻ يجيدها منا الا ثلاثة والرابع فقط يوظف صوته ، نغنيها من غير بروفة ولن ننته إﻻ ونجد أن الجميع يردد معنا منتشيا ... وكثيرا ما نردد ونعيد المقطع ..." أودي في سيرتك وأجيبا ....سيرتك أنت علي حبيبة ...ﻻ شبه صادفتو زيك وﻻ عيون منك قريبة " ...نقسم مقاطع اللحن على ثلاثة أجزاء فيؤدي ذوو الأصوات العادية بداية اللحن ، بعدهم يصعد أصحاب النفس الطويل بالنغم ليلتقي الجميع عند قمة اللحن ، فكن نأديه بطريقة الهرم نصعد به ونهبط ، ثم نعكسه فنكتشف لوحة من المتعة والسحر نمارسه تلقائيا على من يستمع إلينا ...كل شيء يأتي جميلا دون سابق ترتيب ....ثم نردد أعنيات ثنائي العاصمة ...عثمام حسين ...الحقيبة ....وعيون الأغنيات السودانية ...نغنيها كفرقة ولأول مرة وتأتي جميلة كدهشتنا بودمدني ...كأنما أذواقتنا قد تناسخت ...فنتوه في ألحاننا إلى أن نسكر بخمر المتعة فنرجع إلى معقلنا حيث متعة أخرى تنتظرنا.
- ودمدني كانت كريمة علينا (كأهلها) تماما ...فالحديث عن أهلها وكرمهم منقصة لهم - لله درهم - لم تخل مدني من التاريخ ..كيف وهي التاريخ بذاته ...وعن طريق صدفة صادفنا إفتتاح متحف ودمدني الجديد قبلنا بشهور ... غصنا في أعماق التاريخ هناك ...
لنا قصص مبكية وحزينة بقدر متعتنا في مستشفياتها ...المرضى وما يعانون ...كل واحد منا كان دفتر من المذكرات ، دموع ...بكاء ..مرضى عرفناهم ليومين ..صادقناهم ...واحببناهم وعشقونا ...فرحلوا بعد أن علموننا الكثير عن الحياة والأمل ...لكن كل ذلك منحنا أملا جديدا ...وروح جديدة لمقارعة صعاب الحياة ...ما يمنحنا له بعض المرضى ...يمدنا بقوة تفاؤل إشعاعية لنفرغها على بقية المصابين بداء آخر ولن يبقى لن سوى آلامنا ...فكثيرا ما بكينا بلا سبب ...وضحكنا بلا أسباب ...ف في ودمدني كل جميل وإنساني يأتي بلا سبب ...الضحكة ...الفرح ...السعادة ...آلفتنا وسكنت برفقتنا...زمنا طويلا ....حتى ونحن نقابل موافق من الصعب تجاوزها وحملناها زادا ﻷياما قادمات.
- يوم أن أعلنا رحلة العودة ، لم نكن بذات النشاط والحيوية في حزم حقائب العودة ، كانت جدران المنزل تودعنا بيأس عاشق فقد العودة ...منازل حي بانت كانت تركض خلفنا ﻻحقة بنا ...شارع الاسفلت يجرنا إلى الخلف ...مضينا ولافتات ومدني تودعنا من نوافذ العربة وتجرى ﻻحقة بنا ...إبتسامتنا كانت فاترة ونحن نودعها ساكنيها ...نحسدهم عليها .. نعانقهم بصمت ...نودع فيها كل جميل ...نمضي وأنا أردد مع ذو النون بشرى بصوت البابلي :
أصل الكورة يا إسطورة
في اﻷزمان
قمر الليل ... عروس النيل
ودمدني ...
نور القبة اليضوي سماك
والازمان
ومدني ...
محبتي لكم :
نزار عبدالله بشير
Nezar34530@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق