الخميس، 3 ديسمبر 2015

للحــــــلوين نغــــنـــي


للحلوين نغني
بقلم : نزار عبدالله بشير
في فترة من عمر الإنسان تمر به لحظات تكاد تكون الأجمل في حياته على اﻹطلاق ؛ بيد أنه ﻻ يشعر بها وﻻ يعلم أنها ستدوم بذاكرته وتبقى طويلا ...ليأتي يوم وتصبح تلك الأيام صفحات مطوية من ماضي العمر الجميل ، يقف ليبكي عليها برهة من الزمان .
 في فترة التسعينات كان سوق الكاسيت مزدهرا ، وأجهزة الراديو كانت تشكل مزاجا خاصا ، لعشاق الموسيقى ، الألحان والأنغام ؛ أذكر أننا كنا كل مساءا نتحلق ملتفين حول جهاز (إنتر ناشيونال) الذي كان حينها يعد مظهرا من مظاهر الثراء في القرى النائية ، وأجهزة الراديو كانت في الثمانينات وما قبلها تكاد تكون حصرية للتجار والعمد والنظار وذوي الرزق الوفير وبعض المثقفين ، كنا نجلس على الأرض تملؤنا السعادة وهو يتوج أعلى سريرة الفخيم أو (عنقريبة) المريح ...بينما يتكرم علينا هو بالسماح لنا بإلتقاط الأنغام الفاره من سماعة مذياعة وأغنيات ...(علي إبراهيم اللحو ) ...و أغنيات أخرى لملك الطرب (إبراهيم عوض ) ...و (أحمد المصطفى ) ...وغيرهم .
 نوع المذياع ذاته كان يمكن جدا أن يشير إلي الذائقة الفردية للشخص وربما لمستواه المادي أحيانا ، فكانت تتعدد بين (الآرتش) ، وأجهزة (البانسونك) ،(ناشيونال) ، ثم أجهزة الكاسيت التي تكون بداخل العربات ، اللواري ، البصات وعربات البوكس وكان عادة سائقي تلك المركبات عادة يدمنون الإستماع لمطربين بعينهم وأغنيات محدده يمارسون معها طقوس محدد ، فبمجرد أن تبدأ تلك الأغنيات بتوقيع نقر إيقاعها ؛ إلا وبدأ أفيون مزاجه في الإشتعال ، ثم يذهب بها ذات يوم (للخطاط) ليكتب له على خلفيتها مقطع من الأغنية ، فيطير بها محلقا في سموات النغم على أرض الطريق ، ويبدأ بخطف قلوب حسان الحي أو القرية.
 ساهمت تلك الأجهزة بصورة أو بأخرى بذيوع الأغنيات وإنتشارها ، فمعظم الأغنيات التي كتبت على مدار تاريخ الغناء وحتى هذه اللحظات "تصف المحبوبة " ، الجميلة ، السمحة ، الحلوة ، الحسناء ، الرائعة ، الفاتنة و..و... سواء كانت تلك الأغنيات عتاب ، أو رسائل شوق ، تمني ، إنتظار ، نحيب ؛جلها وصفت المحبوبه بصفات المحبوبة المدلله ، العنيدة ...الصاده الجارحة للحبيب ، فقديما كتب صالح عبدالسيد أبوصلاح :
مختارك يحاكي الشولة دمعو الهميل *** والتختارو لي ﻻ شك جميل ياجميل .
قمة الإستسلام والخضوع للمحبوب ، ﻻ عصيان في الحب ، ثقة عمياء تصور تعلقه بالمحبوب ، يصف دمعه (كالمطر المنهمر الغزير) .
جاء أبوصلاح ذاته في أغنيته (قسم بمحيك البدر) ، يخاطبها جزعا راجيا واصفها بكل معاني الجمال:
صحيح لجروحي ﻻ تبري ***هواك برضاي ما جبري
وبسيمات فاهك التبري *** يا جميل قللت صبري
جاء ليوشحها بذات الصفة (الجمال) ، فما تفعله الابتسامه بأبوصلاح ربما فعلته بنا جميعا.
 الشاعر محمد بشير عتيق غنى (للحلوين) بطريقته ، مقحما جو توتي الجميله ، فيصف حالته:
الليل هدا والجو صفا وغاب الأتر
النسيم يجيب من توتي أصوات المتر
أنا يا جميل بي صوت ضميرك المستتر
من شعري أسمعتك ألحان في وتر
عاد في ذات الدائرة ، تبينو التعبير الكامن وراء (أنا يا جميل) ...
أما سيدعبدالعزيز في رائعته (أنة المجروح ) ، لنغني معه للحلوين:
أنة المجروح ...يالروح حياتك روح
الحب فيك يا جميل ...معنى الجمال مشروح .
ﻻ شك أنها كانت في وقتها ، ملاذا للهائمين العشاق ، وكانت تحرر منها خطابات الغرام وتختتم بتوقيع (الحب فيك يا جميل ).
 عبقري الأغنية السودانية /عبدالرحمن الريح في قصيدته (زيدني في هجراني ) ، تلذذ بعذاب محبوبته مستمعا بكل ما يأتيه منها ...بقوله : ( في هواك يا جميل العذاب سراني) ، لم يفتأ عبدالرحمن عاشقا للمحبوب رغم ما تلقاه منه من عذاب وهجران ويدلق عليه صفات الحسن والروعة تاركا مفردته تسكننا :
زيدني في هجراني *** في هواك يا جميل العذاب سراني
بلبل الأغصان غنى بذكراك *** وبالبوح أوصاني
وبالجمال خصاك *** وبالعذاب خصاني
رغم صدود المحبوبة وعنادها لم تتغير في عينية ؛ ما زالت هي الجميله ،فحتى البلبل يطبع عليها عبارات الوصف الجمالي ...ليتركه له العذاب والهجر.
 تعابير جماليه ، شتى توزعت هناك وهناك ، واصفة معشوقاتنا ومحبوبتنا بصفات جمالية مختلفه ، فهناك سيد عبدالعزيز ، يكتب لها حيرته وهيامه بها متسائلا ؟
من حور الجنان أنت؟*** أم إنسان الكمال
هل أنت الجمال توري الناس الجمال
سبحان من أنشاك حسنا في غاية الكمال
يرجع ذات الشاعر مرددا :
يا خلاصة المعاني الصار معناك موضع مثال
فوق المحسنات حايز لطف وكرم وخصال
آلهة الجمال يعترفوا ماليك مثال
ربما من هنا جاءت عبارة (الحب أعمى) ، فهمها ﻻقى المحب من (حبه) و حبيبة لن يتغير تجاهه بحسه ومشاعره ، يظل ذات الحبيب الهائم التائه في الهوى ...وتظل المحبوبة هي الجميلة وكل ما زاد صدها زاد دلالها وجمالها .
 معا (نغني للحلوين) مع أحمد المصطفي حين شارك طه حمدتو توهانه في (الوسيم ) ، فالوسامة كمفرده تحمل ذات مضامين السحر الجمالي ، وربما الوسامة أشد جاذبية من الجمال وكما يقولون (الجمال تنافس) أو تفاوت ...فحمدتو كتب ليغرد أحمد المصطفى :
الوسيم القلبي رادو والجمال حاز إنفرادوا
فعادة ما يتملك كل جميل القلوب ، يأسره بين سجون سحره ، يجعلها تواقة ﻻستنشاق عبيره ، عطشى لرحيقة كشوق النحل للأزهار وكشوق الفراشات للحدائق ، ويتمادى الوسيم في (دله) وتيهه.
أما النعام آدم ، رائع الطمبور فغنى: الزول الوسيم في طبعو دائما هاديء
ربما هو تمني ، حلم أو واقع ولكن يتفاوت (الوسيم ) في طبعه بين المشاغب ، جارح القلوب بإبتساماته وسهام لحاظة ،وأحايين كثيرة هاديء ورزين وعاقل ، وصعب الطباع ، آسر للقلوب ... فالوسيم يظل محبوبنا الذي غنينا ونغني له .
 وعبارات الجمال ومدح المحبوب قد تجيء صريحة أو خفية وراء جملة ما ، هنا يقفز كابلي مرددا "وحات عيني سكر وأكتر" في إشاره لتمجيده (حسب تأويلي الخاص) ....أو جاءت مباشره في النص :
الزول السمح فات الكبار والقدرو
وفي نص آخر
لو قالوا ليك أوصف جمالك تفتكر تقدر تقول كل الحقيقة
للحلوين سحر ، يجذبنا يجعلنا نغني لهم نهيم بهم ، نهتم بهم دون انتظار وأحيانا نبالغ وﻻ ندري ...بأننا نرى حسنهم وفتنتهم ونجيد وصفهم أكثر من تعريفهم لذواتهم .
 إتحد عوض جبريل وعركي ليغنوا (الجميل السادة وضاح المحيا) ...فالجمال الطبيعي الخالي من الاضافات الجمالية التي زانها تختلف من مكان الى مكان وزمان الى آخر ، فقد كانت الشلوخ والمشاط ، وأصبحت اﻵن ميك أب ومكياج و....و...
فالجميل السادة ...وضاح المحيا ... صائد الخافقات آسر الوجدان ، (ما قبلان تحية ) ...وهناك كان زائدا ومبالغا في دﻻله .
 ادريس جماع كتب ما "كشف به حال الحب والمحبين " ، (كما كان يقول وذلك بعد أن وصف أن نظره يمكن أن تمنحك سعادة وتريح روحك التي تحفها المعاناه من فوقها وتحتها حين غنى سيد خليفة :
هي نظرة تنسي الوقار وتسعد الروح المعنى
أي نظرة تلك التي تفعل بك هكذ فلا تنسوا أنه إفتتح قصيدته ب (أعلى الجمال تغار منا ...ماذا علينا إذا نظرنا ) ...فهو تساءل هل يمكن أن يعاقب أو يحسب لمجرد نظرته تلك ، وهاهو يوضح عجزن عن الوصول بقوله :
أن السماء بدت لنا و إستعصمت بالبعد عنا
أشقى من الشقاء تلك القارنة (الخجولة ، الجريئة) بين التوق والحرمان .
 جمالك في الشبه يندر وﻻ بخيال بشر بخطر ...غنى خليل إسماعيل في براح من الشعر المتأثر بالتصوف ، حين ردد (إلهي الصورك أبدع ) ...ليدور معنا مغنيا في فلك المحبين للجمال.
 كان لعبدالعزيز المبارك وقفة مع الجمال في بلاغة واضحة "حين أطلق الجزء وأراد الكل " مغنيا :
أحلى عيون بنريدا في زول علمنا الريده
بينما تساءل عاصم البناء
(ياتو السمح) ...
فالسماح هنا ليس بمعني الغفران والمسامحة التي كتب عنها التجاني ود دارالسلام حين قال:
وجيت تترجى بالدمعات أسامحك أنسى أغفر ليك ....أجفف دمعك الغالي ....بسامحك ما عشان عينيك ....عشان تتعلم الغفران ...وحاول لو قدرته كمان تقدر رقة الحابيك .
السماح هنا هو الجمال بفتنته المحلية ، بروعته الخاليه من الزيف ، هي ذات السماحة التي أفرد لها اللحو براح اللحن ناشدا:
السمحة يا نوارة فريقنا
هي ذات السماحة التي غنت لها البلابل :
السمحين بسامحو ...والحلوين بحنو.
وهنا جاءوا الحلوين لنغني لهم مجددا ...وهم ذااتهم كانوا حضورا حين كنا نردد مع إبراهيم حسين :
للسمحين معاك ما خليت سماحه
زهرات الاماني انت شتول براحة
 الحلوين حضورا حين كانت أغنياتنا بايقاع الدليب ورددنا "أجمل الحلوين وين عهودك وين" ..كانوا هنا حين تمايلنا مع وردي "حبيناك من قلوبنا واخترناك يا حلو " ....عشقناهم حين كتبنا مع حلنقي "يا الشلته حلاة كل الحلوين ...ما سبته وراك زول يتحب" ...هم في قلوبنا ...أغنياتنا ...بمختلف التعابير فهم كانوا الجمال وقت أن غنينا بكل ما نملك من طرب مع صالح الضي :
يا جميل يا حلو
ومع حسين شندي :
يا جميل يا منتهى الألفة ...
ليس هذا هذا كل ما همنا به عشقا ....ليست هي كل اقتباساتنا ورسائل ....بل هي ليست كل اغنياتنا التي غنيناها للحلوين ...
قبل الختام ...هل ما زالنا نغني للحلوين حتى الآن .
حبي لكم نزار عبدالله بشير
Nezar34530@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق